Friday, February 5, 2010

يوميات باحث عن عروسة - بارت فايف




يوميات باحث عن عروسة – بارت فايف



تثائبت في ثقل مثقل بكل أحاسيس النوم في هذه الدنيا, وكلي يقين أن حتى الأخ دراكولا نفسه لن يكون أكثر حاجة إلى النوم مني في هذا الوقت
... هرشت في رأسي حيث أحس بصداع كومبو، كما لو كان رأسي موضوعا ككرة قدم في ماتش
لنهائي نوادي أفيال أفريقيا ... تبا !! لقد ركل هذا الفيل الغتيت رأسي من جديد
بزلومته الحلزونية، ليعود الصداع يرج رأسي في نشوة أشد ...


أين أنا الآن ؟؟ ... قد تعتقد أني كالعادة أمام شاشة
الحاسوب أمارس هواياتي المفضلة من إصابة نفسي بكل أنواع الأمراض، بدءا من الإرهاق
مرورا بالصداع وآلام الظهر واحمرار العينين وصولا إلى حالة التمبلة الـ "أن
ليميتد" ... أو قد يخطر ببال آخر أن الظروف فرضت علي القيام بدور
"نينة" أطفال لأختي الصغرى "الغلباوية" ...

لكن الحقيقة المزعجة المؤلمة الغريبة فحت، هو أنني راقد
على السرير أعاني من صداع وإرهاق، مع عدم القدرة على النوم !!! ... نعم، ضع ما شئت
من علامات تعجب، فإن لم يكن إنسان في حالتي المزرية لديه قدرة على النوم، فمن
يحتاجها غير زومبي ميت منذ 3 أسابيع ؟

ومع هذه الحالة الروحانية العالية التي تصل بك إلى قمة
التهييس، لم أجد بداً من تضييع وقتي الثمين "الضائع خلقة" في التفكير في
شئ يساعد على النوم .. وماذا يكون هذا الشئ ... أحسنت ... إنه التفكير في عروسة
جديدة عشان أقفل 30 عروسة وأدخل موسوعة جينيز كأكثر الأشخاص نحساً على
وجه الأرض بدل ما ادخل دنيا ...

طبعا مع معرفتي بأني استهلكت أفضل الفرص ولم أنجح فيها،
فقد بدأت في مراجعة لستة "الهوالك" ... ولمن لا يعرفها – خصوصا الشباب
اللي لسه طازة وفي بداية المشوار – فهي تلك المجموعة من العرائس، اللاتي عندما تم
ذكرهن أول مرة، رفعت عقيرتك بصويت يصل صياحه إلى أعمق بحيرة في المريخ – إن كان
المريخ به بحيرات – مستنكرا مجرد ذكر اسمها، لأنها لا تلائمك شكلا أو مضمونا، ولو
حطيت عليها شقة وعربية وبوستين .

أخذت أراجع اللستة بنصف وعي ... هناك سماح بنت عم كرشة
بتاع كشك السجاير، والتي عاكسها نصف شباب الحي وخرج معها في سهرات عاطفية النصف
الآخر... وأيضا سمر عضلات، حائزة على بطولة الجمهورية في المصارعة ثلاث مرات وتدير
الجيم تحت بيت عمتي، التي تراها واحدة من البنات الأكفاء "ولاد البلد
الجدعان"، فعلا، ولاد !!

ثم يخطر ببالي على السريع صديقة اختي التي أخبرتني كم
انها عاطفية وحساسة، هذا شئ جميل ... لكن أن تصل الحساسية للبكاء نصف ساعة حتى
الإغماء لأن أختي أرسلت لها رسالة "بليز كوول مي؟؟" فهذه مشكلة تحتاج
إلى إعادة نظر ونظارة ...

استمرت "داتا بيس" عقلي تلقي بالاختيارات وأنا
ألقفها على صدري ثم أخبطها "هيد" نحو خانة "مش هينفع" ... حتى
وصل الأمر إلى إحراز أهداف بكل كرات العرائس إياها دون جدوى ... يبدو أن هذه
اللستة ستظل "في الباي باي" حتى النهاية ...

فجأة رن هاتفي على النغمة الروشة ... سرينة المطافي ..
التقطته بسرعة قبل أن يوقظ صوته قوات مكافحة الدوشة فتطب على منزلي بتهمة الإزعاج
بينما تترك فرح بنت أم "وي وي" يجلجل في الأفق.

رددت، وعلى الطرف الآخر كان رفيق عمري "مراد"،
وبعد السلامات والاستسلامات والتغتيت على بعضنا البعض، بادرني قائلا :

- بقولك إيه يابني ... عندي عروسة

- يا عم ما قولنا كفاية ... قفايا مبقاش مستحمل ضرب خلاص

- لا يا عم ... دي حاجة متنقية، وعلى ضمانتي

- قول طيب

دردش معي في مواصفات تبدو معقولة ... ثم أعطاني رقم هاتف
والدتها لأن والدها يعمل بالسعودية، وطلب مني الاتصال بها، وإخبارها أني من طرف
"مراد" ...

أخبرته أني سأنتظر قليلا حتى يزول عني ما أظنه دور برد،
لكنه أصر أن "لا تؤجل عروسة اليوم إلى الغد"، و"رؤية في اليد خير
من عشرة في الشباك" ... أخبرته أني سأتركها للتساهيل

-------------------------

صباح اليوم التالي ... أحسست اني أحسن حالا، ولو أن
حرارتي لا تزال "ملسوعة حبتين"، لكني قررت الانطلاق إلى معتقل أبو زعبل
... أقصد، مقر العمل ... فارتديت ملابسي ونزلت السلالم زحلقة من على الدرابزين
كأجدع واد شاطر ...

بعد الانتهاء من العمل، استقللت ميكروباص من نوع
"احشر على قد ما تقدر"، ووجدت فيه مكاناً لنفسي يسع دجاجة مصابة بأنيميا
وفقر دم وتعيش بجناح واحد، لكنه مكان على أي حال ..

وبينما أنا في هذه "السعة الميكروباصية"، خطر
ببالي ان أتصل بأم العروسة "وأهو الواحد يسلي نفسه لحد ما يوصل" ...
أخرجت موبايلي بعد أن فرتكت صدر الرجل على يميني من تريحتي عليه، وكدت أقذف بالذي
على يساري وأنا أخرج الموبايل من جيبي ... اعتذرت لكليهما وهما يكادان يفرتكاني
بنظراتهما، ثم اتصلت بالرقم الذي أعطاه لي "الوسيط"، وأخذت أجمع الاسم
الذي أخبرني به "مراد" حتى تذكرت، "أم سارة"، ياله من اسم
موسيقي ... يدل على الجمال والطيبة و ...

- ألو

باغتني الصوت فجأة ... كان لصوت طفل صغير .. فرددت :

- أيوه ... ممكن أكلم ماما يا حبيبي ؟؟

- ماما مين ؟؟

- ماما مين ؟؟ ... ليه ؟؟ ... همه كام ماما عندك يابني ؟؟؟

- انت مين ؟؟

- قولها واحد من طرف ...

تك ... قفل السكة ... العيل ابن الـــ ... ناس ...

طلبت الرقم ثانية ... أول ما رد الطرف الآخر ... انفجرت

- يعني مش عيب كده ؟؟ ... ينفع تقفل في وشي السماعة ... انت إيه ؟؟

هنا بادرني صوت أنثوي ساحر :

- معلش ... أصله عيل صغير، مكانش قصده

ارتبكت لهذا الصوت ... فتنحنحت ثم رددت :

- لا ... لا لا ... أبدا ... هههه ... دول شباب صغير .. أنا عاذرهم

- مين معايا ؟؟

- احم ... أنا ... أنا مين ؟؟؟

- هنهزر يا استاذ ؟؟؟

- لا مش قصدي ... أنا "تامر" ... كنت عايز أكلم "أم
سارة"

- طيب ثواني

غاب الصوت لبعض الوقت ... ثم عاد من يرد :

- أيوه .. مين معايا ؟؟

- أيوه يا حاجة .... أنا "تامر" .. من طرف "مراد"

- "مراد" مين يابني ؟؟

"الله يجازيك يا عم "مراد" ... وعاملي فيها واصل" .. رددت بالكلمات في
سري داعيا عليه أن يدوخ على عروسة قبل ما يتجوز جزاءا لهذا الموقف المحرج ... لكني
تذكرت فجأة إنه متجوز ومخلف وأنا اللي لسه صايع ... فعدت أكلم "أم سارة"
:

- "تامر" يا حاجة ... يعني ... انت عارفة بقى

- عارفة إيه يابني ... هوه انت بتاع السمك ؟؟ ... انت مجبتش بوري ليه يابني

- لأ يا أمي ... سمك إيه ؟؟ ... أنا التاني

- أيوه أيوه ... مش تقول

- معلش بقى

- وانت هتيجي تشوف الحوض امتى بقى ؟

- حوض إيه ؟؟

- مش انت السباك يا جدع ؟؟

- لأ حضرتك ... أنا ..

ثم نظرت لتلك الأجساد
التي تحاصرني في الميكروباص ... وخفضت صوتي قدر استطاعتي قائلاً :

- "تامر" يا حاجة ... العريس

مع ثقتي بأن صوتي كان منخفضا كما لو كنت أشي بسر من
أسرار مفاعل "ديمونة"، إلا أني أحسست ان أنظار الجميع في الميكروباص
توجهت نحوي في شغف، بينما صوت أم سارة يدوي في التليفون :

- يوووووه ... معلش يابني ... سامحني والله ... مخدتش بالي ... أصل الواحد
مشغول بالبيت والعيال وانت عارف بقى والكيت كيت كيت ...

استمرت هي في طوفان اعتذاراتها وأنا احاول تهدأتها
وطمأنتها وإخبارها أن "مفيش مشاكل"، حتى انتهت من قاموس اعتذاراتها
وبدأنا الحديث "الجد وجداني" :

- بصي يا حاجة .. أنا قلت أكلمك الأول، عشان نفهم ظروف بعض قبل أي خطوة

- عين العقل يا حبيبي

- أنا بس حابب حضرتك تعرفي وضعي إيه ... أنا جرافيك ديزاينر في ..

- جفاريك إيه ياخويا ... ده عيا وحش ؟؟؟

هنا أدركت أن الأم من هؤلاء الناس الطيبين "ربات
البيوت"، الذين لا يعلمون عن الكومبيوتر سوى أن الأولاد "بيلعبوا عليه
العاب" وعن النت إنه "مليان حاجات وحشة" ... لذا قررت اختصار
المشوار على كلينا

- ممكن تعتبريني موظف يا حاجة ... بس ده اسم الوظيفة

- طيب ياخويا ... ربنا يصرف عنك

- المهم إن مستقبل الوظيفة كويس ... وبدور على شقة حاليا و ...

- انت لسه يا حبيبي بتدور على شقة ؟؟

- أيوه ... في مشكلة ؟؟

- لأ ... بس ... انت لسه ملقيتش شقة ... يبقى هتتجوز فين وامتى ؟؟؟ ...
وهتضمن منين إنك هتلاقي بسرعة ؟؟ ... و...

- طيب ... ممكن آجي لحضرتك ونتكلم ؟؟؟

- تنورنا ياخويا ... تحب تييجي بكره بعد العشا ؟؟

- أوكي ... ميعاد كويس ... نو بروبلم

- نعم ؟؟؟

- قصدي ... مفيش مشاكل

أغلقت الهاتف ... وأرجعت ظهري للوراء قليلا، لكن سرعان
ما اكتشفت ان هناك شلة كاملة من البشر تمنعني من ذلك ... ثم رفعت عيني، لأفاجأ
بنظرات الناس كلها نحوي ...مابين شفقة واهتمام وسخرية وتشفي ...

ردد الرجل الجالس على يميني :

- ليه يابني قلتلها إنك بتدور على شقة لسه ؟؟ ... خلي الحاجات دي لبعدين ..

ثم سمعت صوتا أمامي بكرسيين يردد :

- وبعدين روح شوف البنت الأول وبعدين اتفق على كل حاجة ... افرد ما عجبتكش ؟؟

وافقه صوت صادر من اللامكان :

- فعلا ... الحاجات دي بتبقى قسمة ونصيب ... شوف نصيبك الأول وبعدين ابقى عك
زي مانتا عايز

نظرت للناس مذبهلا من معرفتهم لكل التفاصيل، ومن
اهتمامهم للاستماع لمكالمتي ... كما لو كانوا مكلفين من الإف بي آي لتعقب كل من
تحدثه نفسه "بينها وبينه" أن يتزوج ...

هنا ... مالت علي تلك المرأة العجوز برأسها من السقف
مرددة :

- بقولك ياخويا ... هوه إيه "الجَرَافاك" ده ؟؟ ... بيصرفوا فيه
معاشات ؟؟

هيه ناقصاكي يا ستي انتي كمان ؟؟؟


-----------------------------

المكان : بيت العروسة

وصلت في الميعاد ... لا زلت أحس ببعض السخونة ... ويبدو
أن لدي أعراض رشح ما .. لكني أظن أني بخير حال ... ما دمت لم أسقط أرضا في غيبوبة
أو أتحلل فجأة في الهواء أو يخرج من بطني فضائي ما فأنا بخير، بكل خير

حضرت الأم، ثم تبعتها ابنتها ... كانت هادئة، ذات وجه
طفولي، ومع صوتها هذا، أظن أنها مثالية و "سو بيرفكت"

بدأت أتحدث مع والدتها والفرحة تزداد في خلايا جسدي
المفحوتة ..

- وانت يابني لسه هتشوف شقة ؟؟

- أنا ماشي في كذا مشوار يا حاجة ... ومستني بس ردود الناس

أحسست بدغدغة في انفي

- وغالبا كلها شقق كويسة في أماكن قريبة

الدغدغة تزيد

- ويمكن واحدة فيهم كمان تبقى قريبة من بيتكم هنا

أرغب في العطس بشدة

- وعلى العموم هعرف الرد قريب

الرغبة تكاد تصل إلى المحك

- يمكن في خلال أسبوع .... أو ... أســـ .... بو ....
آآآآآآآآتششششششششششششووووو

أخرجت منديلا كتمت به عطستي بسرعة ... ثم ...
آتشوووووووووو أخرى .... استجمعت نفسي قليلا ظاناً أن العاصفة انتهت، ولكن ....
آآآآآآآآآآآآآآآآآآآتشششششششششششششششششششششوووووووو

- آخر واحدة دي كانت صاروخ ...

قلتها وأنا أضحك ... مسحت فمي وعدت للحديث و ...

فوجئت بنظرة الأم وابنتها ... نظرات ملتاعة متسعة كعين
الصيرة، خائفة كماو لو كانت تشاهد بطة عرجاء برأس فأر وذيل سحلية ... نظرا لي ....
ثم صرخت الفتاة في هستيريا

أخذت تصرخ وتصرخ ... حتى أحسست وكأني لص هجم على منزل
أميرة لم ترى في حياتها بشريا آخر على وجه الأرض ... حاولت تهدئتها، فصرخت أمها في
غضب ممزوج بالهلع :

- إيه اللي انت عملته ده ؟؟؟ ... إيه اللي انت هببته ده ؟؟؟

- هببت إيه بس ؟؟؟

- بتعطس ؟؟ ... وعندنا في البيت ؟؟

- إيييييه ؟؟؟ ... هوه العطس عندكو شتيمة ولا كلمة قبيحة ؟؟

- انت عايز تموتنا ؟؟ ... عايز تعدينا ؟؟

- أعديكو إيه بس ؟؟ .... مانا حطيت منديل

هنا صرخت الفتاة بصوتها الجميل الساحر :

- انت كده هتجيبلنا "سوين فلو"

رغم صعوبة الموقف، ورغم انها كانت أول مرة تتحدث فيها "سارة"
منذ جلسنا، لكنها كانت أحلى "سوين فلو" سمعتها في حياتي، ولولا هذا الـ
"سيتيوويشن" لطلبت منها أن تعيدها من جديد مرارا، بل وربما سجلتها لها لأنشرها
كأغنية "سينجل" و ...

- انت إنسان مستهتر ... و .... و ... و ... مش عارف بتعمل إيه

ياللفتاة الطيبة ... تحاول جاهدة أن ترميني بألفاظ بشعة
... لكن قاموسها الملائكي لم يعرف هذه الـ ...

- وجاهل ... وعربجي ... ومعفن ... و"سو
ديرتي"

آآآآه ... واضح إن المشكلة عندها بس إن الاستدعاء بطئ
... لكن القاموس لسه بخيره

تركتهما تنوحان وتبرطمان ... وتوجهت خارجا من باب الشقة،
ثم التفت إليهما ... و"رحت مديها عطسة ع السريع" ، وفررت هاربا ...


---------------------

راكبا في الميكروباص ... مستعيدا تلك الأحداث الغريبة
... ورأسي يتمرجح مع حركات السائق يمنة ويسرة ...

أحسست براحة أني لم أسر في طريق إنهاء هذا الزواج، هذا
ما كان ينقص حياتي، زوجة تخاف من العطس، وتغسل الصابون بالصابون، وتنقع مسحوق
النظافة في "ميه بخل" ... لكنها أحداث أضحكتني رغما عن ذلك، يجب أن أفكر
يوماً في كتابة يومياتي تلك لربما استطعت ان ....

- آآآآآآآآآتتشوووووووووووووو

عطسة صاروخية صدرت من ذلك الرجل بجانبي ... التفت إليه
في قرف مرددا :

- مش تحاسب يا عم ؟؟ ... انت عايز تجيبلنا "سوين فلو" ؟؟


-------------------





يوميات باحث عن عروسة – بارت فور



يوميات باحث عن عروسة – بارت فور



السابعة والنصف صباحاً ...

ها أنا أجلس منذ صلاة الفجر كالعادة على حاسوبي العزيز, أقوم بإنجاز بعض الأعمال وتصفح الانترنت بين الفينة والأخرى, كوب نعناعي الساخن يمدني بالطاقة و"الدماغ" الكافيتان لإكمال مشوار التركيز ... غارقا في كل ذلك, إذا بيد حانية رقيقة تربت على ذراعي ... التفت, آه, إنها "حياة" أختي الصغرى بالصف الثالث الابتدائي ...

لمن لا يعرفها ... هي ملاك رقيق, عليها ابتسامة تذيب القطب الشمالي وتحوله إلى حتة أيس كريم صغيرة, قبلة صغيرة منها تنسيك همومك ولو كنت رئيس منظمة "شايل طاجن سته" ... الغريب ان هذا ما تطالعه نهارا, أما ليلا عند قدوم ميعاد نومها, فهي تتحول إلى شيطان صغير يعيث في البيت صخبا ... أبي من النوع الذي يحب النقاش الهادئ, لذا فهو يرزعها كفاً سوبر تحيلها إلى كتلة من الصراخ التوتري المزعج على سريرها, حتى يغلبها النوم, فتنام مرتاحة, ويرسل أهالي المدينة المجاورة برقيات شكر لنا على انتهاء هذه الكارثة البكائية ...

المهم, أنها كانت في حالتها الملائكية إياها, رغم بوزها العريض لعلمها أنها ستتوجه إلى معتقل التعذيب اليومي, المدرسة ... ابتسمت لها متسائلا :
- خير يا "حياة" ... في حاجة
- أيوه ... تعالى وصلني المدرسة عشان بابا نزل بدري وموصلنيش
- مانتي شايفة يا ماما إن عندي شغل كتير ... روحي خلي "أسامة" يوصلك
- قلتله ... قالي هوه مفيش مرمطون غيري في البيت ولا إيه ؟
- ومحمد ؟
- نطيت في كرشه تلات مرات ... بس مش عايز يصحى برضه, ده كان فاكرني حتة جاتوه وهياكلني, بس ربنا أنقذني ...
- طيب يا غلباوية, أنا مش فاضي ... شوفيلك مواصلة تانية

نظرت الفتاة إلي شزراً, ولولا أني أعلم أني أخوها الأكبر لركضت خوفا من أن تناولني "لكمية" محترمة, ثم نفخت هواءا ساخنا أول الغرفة لدرجة الشواء, وانطلقت تدب على الأرض مبرطمة بكلام من عينة "يارب خدني من البيت ده وريحني ... كان لازم يبقالي أخوات ... يا رب النت يولع"

أمسكت أعصابي .. وأدركت أن الحوار لم ولن ينفع معها, حسنا , المرة القادمة سأستخدم أسلوب أبي الناجح مع هذا الجيل المتعفرت ..
عدت بنظري إلى شاشة الجهاز وبدأت في العمل و ...

- تامر
- تااااااااااامر
- تاااااااااااااااااااااااااااامررررررررررررررر
آه ... أمي العزيزة ... لا زالت تصر على إيقاظ عم مرعي الأطرش الذي يسكن بالقرب منا ... قمت بسرعة متوجها لها قبل أن تصاب أسود الكونغو بالصمم, ونتكفل نحن بفواتير علاجها ...

وصلت لها في غرفتها قبل أن تبدأ في وصلة تامرية أخرى ... سألتها :
- خير يا حاجة
- معلش يا تامر يا أخويا ... خد البنت أختك وديها المدرسة
رمقت تلك العفريتة الصغيرة ذات البوز الملتوي بنظرة غل, ورددت :
- مش هينفع يا أمي ... معايا شوية شغل
- يابني روح بسرعة .. دول خطوتين
- يا حاجة مبحبش أقطع تركيزي, سيبيني في حالي
- معلش يا تامر ... مفيش حد غيرك
- بصي يا حاجة ... أنا مش فاضي خالص, ومش هروح أوديها ...

---------------------------------


أسير في الشارع بجانب تلك المزعجة موصلا إياها إلى المدرسة ... لا أعلم كيف انتهى بي الحال هكذا, لكنه انتهى على أي حال !!!
- تامر ... انت جاي بالترنج والشبشب المقطوع ده ؟
- أيوه يا أستاذة, فيها حاجة ؟
- لأ يعني .... بس احنا رايحين المدرسة و ...
- يعني رايحين حفلة تخرج ولا سهرة سواريه ؟ دي مدرسة ابتدائي كحيتي
- تامر ... يعني إيه سواريه ؟
- ده المكان اللي بيحطوا فيه العيال اللي بترخم على أخواتها الكبار, ويفضلوا يزغزغوا في رجليهم لحد ما سنانهم تقع
- طيب طيب ... خلاص

مشينا شوية ....
- تامر ... متجيبلي عود قصب ...
- أنا ممكن أجيب واحد أكسره على دماغك ... انجري يا بت على المدرسة ...
- يووووه ... دي بقت حاجة صعبة, أنا هبقى أجيب واحد بعد المدرسة وأغيظك بيه
- غيظي ياختي ... فاكرة نفسك جايبة عود دهب؟ .. ده حتى مسوس والراجل بخلان يحشيه ...

وصلنا مدرستها المتهالكة وعبرنا بوابتها, الأطفال في كل ركن وكل زاوية, أطفال عند الباب, في الحوش, في الحمامات, فوق النخل, حتى أني أخرجت طفلا من بين قدمي كان يبحث عن "بلية" !!!

وبينما أنا في هذا الهرج, تركت أختي يدي فجأة, وهي تجري منادية : ازيك يا ميس "هيام" ؟
التفت إليها لأريها النجوم في عز الظهر ولأطلق قذائف "البونيات" التي سوف .....
- ازيك يا حياة ؟

احم ... وقفت كالتمثال, وتجمد كل ما حولي ... وأنا أطالع حياة تسلم على أستاذتها "هيام" وتضحك معها.
كانت أستاذتها تلك ترتدي إسدالا, وتملك وجها مريحاً رقيقاً جذاباً , يشع منه نور آسر و ...
- حضرتك أخوها ؟

أفقت على سؤالها مكتشفا أني أنظر إلى عينيها مباشرة, أسرعت أغض بصري محاولا الرد :
- نعم ؟ .... إيه ... آه .. أيوه أيوه ... أخوها ... هيهيهيه
- بص يا تامر ... دي أبلة "هيام"
- أيوه ... دي "حياة" بتحكي عنك كتير, بتقول : أنا مبفهمش العلوم إلا من ميس "هيام"
- احم ... تامر, العلوم بتاعة ميس "رغدة", أبلة "هيام" مسئولة المكتبة ...
- إيه؟ ... أيوه ... سوري ... أصل عندي زهايمر في الأسماء ... معلش
أخذتُ أحاول مداراة الشبشب المقطوع, و مساواة شعري الذي يشبه "لفة سلك المواعين", وهي ترد :
- ولا يهم حضرتك ... على فكرة , أختك "حياة" ممتازة جدا ... ربنا يخلهالكو
- ماهو "تامر" اللي بيذاكرلي يا ميس
- بجد, دي حاجة كويسة جدا انك تاخد بالك منها
- يوه, دي حاجة بسيطة جدا ... أنا بحب دايما أخدم النشء الصغير, دول زي أولادنا برضه
- ربنايكرمك ... طب نستأذنك عشان الطابور هيبتدي ... سلمي على أخوكي يا "حياة" عشان نمشي

جرت العفريتة الصغيرة نحوي, انحنيت أقبلها وهي تردد :
- زي أولادنا برضه؟! أقولها إنك موصلني بالعافية ؟
- تظاهرت بالابتسام وأنا أضغط على أسناني :
- خليكي جدعة, وهجيبلك قصب المرة الجاية
- وكراسة رسم وكيس دوريتوز ... اتفقنا ؟
- طيب يا مستغلة
ضحكت وانطلقت إلى معلمتها, ثم اتجهتا معا إلى أرض الطابور بينما غادرت أنا المدرسة, ولكن ليس كما دخلتها ...

---------------------------


أنهيت عملي في ذلك اليوم بين تركيز وتهييس, ثم انطلقت عائدا إلى البيت, تناولت العشاء على عجل ثم ناديت "حياة":
- إيه يا توتة ... مش عايزاني اذاكرلك ؟
توقف البيت كله فجأة, ونظر لي الكل في استغراب ... تنحنحت بحرج وأنا أردد :
- أنا بس قلت الامتحانات قربت فلازم ناخد بالنا منها ...
رفعت أمي حاجبا وخفضت الآخر مرددة :
- خير ... خير ... هيه فعلا محتاجة حد يذاكرلها اليومين دول

جاءت "حياة" ناظرة إلي من تحت لتحت قائلة :
- آآآآه ... تذاكرلي ... ولّا عايز تعرف عن أســ ...
كتمت فمها بسرعة, وربطتها, ثم أختها طيران على الصالون وأغلقت الباب من خلفي ... القيتها بعد أن عضت يدي, ثم هددتها :
- عارفة لو استهبلتي وعملتي فيها ناصحة ... هرميك من السطوح عند الكلب بتاع الواد حمادة ....
- لاااااااااااااااااا ... خلاص يا تامر ... عشان خاطري معلش ...
- أيوه كده اتعدلي, عالم متجيش إلا بالعين الكاروهات ...

تذكرت فجأة أني أنا من يحتاج إلى المعلومات, وأني في موقف الضعف, تذمرت من هذا الموقف الذي يجعلك لعبة في يد طفلة عفريتة في الصف الثالث الابتدائي لا تعرف الفرق بين الجامعة والجمعية ...
انحنيت في عطف أبوي شديد, وفي صبر أقل من صبر أيوب قلت لها:
- حيوته ... حبيب قلبي ... أنا يهمني مصلحتك ...
- أكيد .. مانا عارفة
- بقولك صحيح ... مين ميس "هيام" دي ؟
- دي مسئولة المكتبة, أصلي في الفسحة والحصص الفاضية بروح المكتبة أقرا كتب, فهي عارفاني وسعات بتقعد تتكلم معايا
- طيب بصي يا "حياة" ... أنا هطلب منك مهمة سرية ... توب سكريت يعني ...
وانحنيت على أذنها أخبرها بتفاصيل خطتي الخاصة...

-----------------------------------------


استمر الموضوع أياما, كنت آخذ "حياة" إلى مدرستها يوميا, مرتديا ملابس العمل ومصففا شعري كـ "ألفيس بريسلي" هادفا إلى رؤية "هيام", في بعض الأحيان كنت أستطيع مقابلتها, وأحيانا أسألها عن أحوال أختي في الدراسة بحكم متابعتها لها, وعند عودتي من العمل أجد نفسي أستمع إلى أناشيد من عينة "زوجتي" و"أفراح وورود" و"ياجماله" بكثرة ... بل إني فسدت لدرجة أني أقرأ بعض الشعر الجاهلي خلسة !! ... ده الموضوع بقى خطير ...
كل ذلك وأنا أكون قراري المصيري ...

----------------------------------------


"تتجوز؟؟!"

نطقت أمي بالكلمة في استغراب ونحن على مائدة الطعام, أخي يضحك بصوت عالٍ جدا, وأخي الآخر يغمز بعينيه مرددا :"ياواد يا لئيم" ... بينما أختي تسائلت : ومين دي بقى ؟ ... طبعا أبي لا يزال يطالع الجريدة ولم يكلف نفسه بمتابعتنا ...

انحنيت على "حياة" لأخذ رأيها, تهامسنا قليلا, وأمي تنظر باستغراب :
- شوف ياخويا العيال, انت بتاخد رأي المفعوصة دي ولا إيه ؟؟
اعتدلنا, و"حياة" على وجهها نظرة ثقة لإحساسها إنها أصبحت كبيرة ويؤخذ برأيها, بينما تكلمت أنا :
- دي الأبلة بتاعة "حياة" في المدرسة ... مسئولة المكتبة و ....
- إيه ده؟ ... وهي عارفة إنك ساقط محو أمية ؟
- اوعى لما تتجوزوا تجيبوا رف إيجار, دوروا مكتبة تمليك أحسن
أخذ هذان الأخان الظريفان بالضحك على تعليقيهما الأخيران, ويصفقان بيد بعضهما كمجاذيب القرون الوسطى, نظرت بقرف إليهما وأوضحت :
- لن أقول إلا ..... ربنا يشفي البعدا ...

سألتني الحاجة : وظروفها إيه دي ؟
- عادي, انتين نظام وكتالوج استعمال يصرف عند الزواج ... بيقولوا عندها أربع سرعات ..
- احنا هنهرج يله؟ ... يعني احكيلنا عنها ...
- بهزر يا أمي, بلاش قلبك يبقى ناشف زي أبويا ....

أنزل أبي الجريدة .. أخيرا الراجل فاقلي ... ثم تناول حبة عنب ألقاها في فمه كأجدع نشنجي ... رفع الجريدة, وعاد مرة إخرى إلى حالته
زفرت في يأس ... ثم تابعت محدثا أمي :
- هي إنسانة مؤدبة ومحترمة, مثقفة, متدينة, أبوها وأمها كانوا منفصلين بس ...
- إيييييييييه ؟؟؟

صرخة مدوية, فوجئت أن مصدرها أبي ... أمي تضرب يدها على صدرها ... وصوت أبي الهادر يتابع :
- جايبلي بنت مشردة يابن الــ ...
- أأأ ... حاسب يا حاج ... "حياة" قاعدة
تجمد أبي في مكانه مطالعاً وجه تلك الفتاة البريئة ... ثم نظر إلي نظرة نارية مرددا :
- تعالالي على أوضتي يا محترم
ثم ذهب إلى هناك ... أخذت أهدئ من روعي, أنا خلاص كبرت وشغال ... مش معقولة أبويا هيمد إيده تاني عليا يعني ... أنا راجل ملو هدومي وشغال ... أخذت أشجع نفسي حتى وصلت إلى غرفته وطرقت الباب, فرد : خش يافندي
صوته الجهوري جعلني أعيد النظر, الراجل ممكن يغير رأيه فعلا ... ويمد إيده ... ويكسرلي ضلعين تلاتة ... مش الجري أحسن برضه؟؟؟ .... أنا إيه بس اللي خلاني عايز أتجوز ؟؟

ازدرت ريقي, ثم دخلت ... وتبعتني أمي
أبي : عايز تتجوز واحدة أبوها وأمها منفصلين ؟
رديت : يا حاج .. إيه المشكلة يعني ؟
- المشكلة ... المشكلة ... إن أبوها وأمها منفصلين ..
- أيوه ... يعني إيه المشكلة إن أبوها وأمها منفصلين طالما هي متدينة وعلى خلق ...
- شوفوا الواد ياخواتي ... أقوله منفصلين يقولي مؤدبة ... أم تامر شوفيلك صرفة مع الواد ...
هرعت لي أمي قائلة : يابني ... أبوك قصده, هنقول للناس إيه .. أبوها وأمها متطلقين
- وأنا مال أهلي (سوري يا حاج) ... هوه أنا هتجوز أهلها ولا هعيش معاهم ... أنا هتجوزها هيه ...
- مينفعش يا تامر ... أنا وأبوك أدرى بمصلحتك ...

نظرت لهما مندهشا, مصلحتي ؟ ... همه عايزيني أعنس ؟ ... نقلت بصري بينهما, ثم غادرت دون كلمة أخرى ..

وهكذا ... ولمدة شهر ... أخذت أخوض جولات نقاشية مع والدي ووالدتي, تارة بالشد, وتارة بالشد !! حتى أني فكرت في عمل اعتصام سلمي أمام المطبخ, وتقديم شكوى إلى الأمم المتحدة ضد والدي, لكني خفت على البنت "حياة" العفريتة, فآثرت المحادثات السلمية ...
وبعد كل ذلك, وافق والديّ على مضض ... أسرعت أقبل الأيدي والأقدام ... وقررت التقدم لها في المرة القادمة التي أراها فيها ...

--------------------------------------

"حياة" أختي الصغرى ... رغم محاولاتها أن تبدو لمضة, إلا أنها بريئة برائة عصافير الكناريا التي تعيش في القمر, وهذا ما تأكدت منه في هذا اليوم ...
عدت من عملي مجهدا يومها, وقد قررت أن أفاتح "هيام" في اليوم التالي, وبينما أنا أتناول العشاء, ركضت ناحيتي كتلة الضوضاء المتحركة ...
- تامر ... تامر ... ابقى هاتلي معاك دوريتوز المرة الجاية
- حاضر يا توتة ... انت تؤمري
- آه صحيح ... خد الشيكولاته دي
- جميلة ... جبتيها منين ؟؟
- أصل أبلة "هيام" اديتهالي النهاردة ...
لمع في رأسي فلاش الأحلام الوردية بمجرد ذكر اسمها, وأنا لا أطيق صبرا لأكلمها غدا و ...
- بمناسبة خطوبتها ..





- نعاااااااااااااااااااااااام !!!!!!

اجتمع البيت كله على صوتي وأمي تهتف: خير يا تامر ... في حنش قرصك ؟
أصبحت كالمسبهل والريالة تتساقط من فمي ونظراتي زائغة ... سارع أبي :
- انتي قولتيله إيه يا بت اني ؟؟ انطقي ..
الفتاة المسكينة مخضوضة ورددت في خوف بصوت يقارب على البكاء :
- ولا حاجة ... بديله شيكولاته, وبقوله بتاعة خطوبة أبلة هيام و ...
لم يتمالك محمد أخي نفسه وانفجر ضاحكا بعنف ... نظرت إليه بغل, لا أستطيع مقاومة قتل ذلك الباعوض الذي يتجمع على قفاه, لا أستطيع .... طاااااااااخ

----------------------------


السابعة والنصف صباحاً ... أسبوع من هذا الموقف ... "حياة" تحاول إيقاظي مرددة :
- تاااااامر ... قوم وصلني ...
شخيري يتقطع ... وانا أرد :
- روحي شوفيلك حد تاني يا بت..
- مش هتيجي معايا ... عشان تسأل أبلة "هيام" أنا عامله إيه في المدرسة ؟
ضحكة مرارة مكتومة انطلقت مني .. البت دي بريئة طحن ... رددت دون أن أفتح عيني ...
- كان زمان وجبر ... معدش في فايدة ... روحي اتنيلي على مدرستك
كتمت الفتاة بكائها ... وانطلقت تدبدب في الأرض بغضب مبرطمة بكلام من عينة "أخوات فظاع" و "إيه البيت الخنقة ده يا ربي" ...

بدأت أغيب عن الوعي متجها للنوم ... لكني بالتأكيد سمعتها تردد شيئا ما ... يتعلق بـ "العالم المصلحجية" ...

بلا وكسة ...


يوميات باحث عن عروسة - بارت ثري

اللي يحب يبظ بظة على "البارتات" اللي فاتت :

يوميات باحث عن عروسة, بارت وان
يوميات باحث عن عروسة, بارت تو



يوميات باحث عن عروسة – بارت ثري

.....................................................


لا أصدق ذلك, بل لا أصدق نفسي حتى ... ها أنا بعد رحلة المعاناة الطويلة, والتنطيط في شقق الناس, قد جلست أخيرا في الكوشة بالبدلة السوداء, وابتسامتي تشق وجهي إلى نصفي بطيخة طازة, بينما ألمح هذا الحقد العزوبي في أعين ذاك الركن الذي اجتمع فيه أصدقائي القدامى ... أستطيع أن أسمعهم يتحدثون عن "ابن المحظوظ ده" الذي حاز للتو لقب متزوج جالسا إلى جانب عروسه التي ...

- تامر

التفت إلى العروسة ... غريبة !!! ... لا أستطيع تبين ملامحها ... هل هذا عائد إلى إرهاقي الشديد

-يا تامر

أفقت من تساؤلاتي مجاوبا : خير يا حبيبتي ؟

لكنها استمرت ... تامر .... تامر

ثم ... فتحت عيني ... لأجدني على سرير غرفتي محدقا في شهادتي الجامعية التي أصررت على تعليقها في غرفة النوم برغم حملها لقب "مقبول" أو "يدوب ناجح" على رأي أبويا

" تامر .... يا تااااااااااااااااااااااااااااامر"

أفقت أكثر ... ده صوت الحاجة ... حبيبة قلبي, عليها صوت يصحى الزومبي النايم في مدغشقر ... قمت واعتدلت في سرعة محاولا الرد, قبل أن تطلق نداءا آخر يتسبب في انهيار صخري جديد في المقطم :
أيوه يا أمي, خير ؟
الأكل يا حبة عيني, يلا لحسن هيبرد
حاضر, حاضر ... جي أهوه

قمت في تثاقل كدب قطبي أكل للتو عشرين بطريق ولم يتناول حبة فوار واحدة, تعثرت في بعض الألوان والكشاكيل الدراسية التي تلقيها أختي الصغرى في كل مكان معتبرة أن هذه "ديموكراسي" كما أفهمتها الميس, وأن "الأرض أرض ربنا, براحتي" كما أفهمتها جارتنا أم "وي وي" ...

من الصعب أن تنام بهدوء في يوم الجمعة, خصوصا إذا كان عدد سكان البيت يكاد يقارب فريق كرة قدم خماسية بالحكم, وإذا كان عليك الاستيقاظ مبكرا لأن الحاج ممكن يقلبها معسكر تعذيب لو لم يتناول إفطاره قبل الصلاة.

وصلت إلى السفرة, أو "استاد الأكل", أبي يقرأ الجريدة في صدر المائدة, أو أنه يستخدمها كحائط صد دفاعي, أمي مثل النحلة بين السفرة والمطبخ, العيال قالبينها ملاهي ... أزحت في هدوء كتب محاضرات أختي الكبرى, أحنيت رأسي بسرعة لأتجنب تلك الكرة التي ألقاها أخي عليّ ظاناً أني "دونالدو" كما يدعي, أخرجت في لا مبالاة قلما من طبق الفول الخاص بي صائحا:
مين يا إخوانا اللي ناسي قلم المذاكرة هنا ؟
تناولته أختي وهي تردد : إيه ده ؟ ... مش تقول إنه معاك من الصبح بدل مانا دايخة عليه ؟
رددت بعين نصف مفتوحة : معلش ... كنت عايز أدوقه مع الفول بالزبدة ... بيقولوا دايما "عليك بعصير العلم"

ثم انفجرت ضاحكا, ضاحكا بعنف ... فتحت عيني لأجد الكل ينظر لي في ازبهلال واضح, وأبي لا يزال يقرأ في الجريدة , بينما تقول أمي :
إنت لسه سخن يا تامر يابني
تلاشت ابتسامتي في هدوء معتاد وأنا أردد :
ولا حاجة ... شكلكو شاربين عصير "نكد وز" على الصبح

أخذت رغيفا من بتوع الجمعية, والذي أكاد أقسم أنه لولا لوحة مضيئة تضع سهما عليه لتخبرك أنه "رغيف عيش", لم أكن لأعرف ذلك وحدي ... قطعت لقمة "جملي" تدل على جوع فحيت, غمست اللقمة بربع طبق الفول, سميت, ورفعتها إلى فمي بينما رائحة السمنة البلدي تداعب نخاشيشي و ...

- بقولك يا تامر يابني

تجمدت يدي عند هذه الوضعية, نقلت بصري إلى مصدر الصوت بينما فمي لا يزال مفتوحا, وهناك, من خلف الجريدة, أطل أبي بوجهه الطيب مرددا:
انت مش ناوي تتجوز بقى ؟

"يادي الداء اللي منتشر في العيلة دي, هوه حد عاملهم عمل اسمه جوزوه" هتفت بالكلمات في سري, ثم ... أغلقت فمي, وأنزلت اللقمة في حسرة, لمعرفتي أن هذا بداية حوار أطول من مفاوضات حرب البسوس ...
طبعا, لم تسلم العبارة من تعليقات "آه يا توتي, نفسنا نفرح بيك بقى" , "بجد يا تامر انت لازم تشد حيلك" , "تامر ... انت هتتجوز وتسيبنا ... واااااء" ... و ... "يا حاج يتجوز إيه, ده ياكل العروسة وأبوها في طقة واحدة"
نظرت إلى أخي -الذي يصغرني بعام وصاحب التعليق الأخير- شزرا , ثم عدت إلى أبي:
خير يا حاج يعني ... إيه اللي فتح السيرة دي معاك ؟
ولا حاجة ... أصل ليا واحد صاحبي في الشغل, حبيبي أوي , من أيام ما كنا في السعودية, أيام ما اتشحططنا , عارف عمك ده .....

واستمر أبي يحكي قصة فتحه هو وصديق عمره لطروادة, وانتصارهم على الأناكوندا في أدغال المسيسيبي, بل وصل الأمر إلى سرد أسماء كل عسكري في جيش تحرير أكتوبر ... وأخيرا ..
بس يا سيدي, فمن يومين, كان جايب بنته معاه و ... إيه ده؟ ... انت نمت يا تامر ؟ تااااااااااامر ...
هه ... أيوه ... معلش ... نعم ... بتقول إيه يا حاج ؟
مش قلتلك بطل سهر على أم النت والقرف ده ؟ ... المهم, هوه كان جايب بنته معاه, شفتها وحسيت إنها تنفعك ... إيه رأيك ؟
رأيي في إيه ؟
يبقى على بركة الله ... أنا حددت معاه ميعاد النهاردة بليل ... روح أجرلك بدلة ..
!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

---------------------------------------------


في تمام التاسعة مساءا, كنا نقف, أنا ووالدي, أمام عمارة في أحد الشوارع المتفرعة من شارع الهرم ... هم أبي بصعود المدخل, لكني أمسكت ذراعه بسرعة متسائلا:
طيب يا حاج أنا معرفش عنها أي حاجة خالص, انت عارف إني عايز شروط في اللي هتنيل أتجوزها ...
يابني دي بنت مؤدبة وجميلة ومتدينة كمان ... صدقني الوضع هيعجبك ...

نفخ والدي في روحي اليائسة, ورفع من معنوياتي التي كانت قد وصلت إلى بير سلم العمارة, فأخذت نفسا قويا , وصعدت معه ..
صعدنا إلى الشقة حيث استقبلنا والدها بحفاوة تنافس أجدعها وزير, أدخلنا إلى الصالون, وجلس معنا مرحبا ...

شوية رغي, ثم قال والدي : طيب مش هنشوف عروستنا سارة ؟
نادى الأب عليها ... دخلت في حياء ... ونظرت إليها ... يادي النيلة ... إيه ده ؟
بنطلون وبلوزة ومسرحة شعرها ولا بسة "برادا" ذات الكعب العالي و .... من الآخر , مجلة موضة على ساقين ...
ميلت على والدي هامسا :
- إيه ده يا حاج ... انت متأكد إن دي بنت صاحبك ولا حضرتك غلطت في العنوان ؟ ... مش بتقول متدينة
- أيوه يابني, دي لما بتيجي تنام بتقلب الراديو من إف إم على إذاعة القرآن الكريم ...
- لا بجد ؟ ... هوه ده بقى التدين ؟
- انت هتعلمني من الأول ياض انت, أنا غلطان إني مشيتلك في موضوع

أخرجت زفيرا حارا من ذلك البركان في صدري, لكني قررت ألا أظلم الفتاة وأن أتحدث معها أكثر , فقد يكون ما تبطن أفضل مما تظهر ...
- ازيك يا أستاذة سارة ؟
- كويسة ... تسمحلي أسألك سؤال ؟
- فاجئني أنها هي التي بدأت ... لكني لم أجد أي مشكلة وأنا أحثها : أكيد ... اتفضلي
- انت عايز تتجوز ليه ؟
- أصل عليا جمعية وعايز حد يسددها معايا
- نعم ؟
- إيه السؤال الغريب ده, يعني إيه عايز أتجوز ؟
- يعني انت عايز تتجوز عشان الجواز ولا عشان إيه بالضبط ؟

"البت دي هتطلع زرابيني (اللي معرفش معناها لغاية دلوقتي) وهتخرجني عن شعوري" همست في سري,ثم, تمالكت أعصابي, وأنا أرد :
- بتجوز عشان سنة الحياة, عشان تأسيس أسرة مسلمة, والواحد يحصن نفسه و ...

- يعني كده, ... البنت في نظركم مجرد بضاعة ..

"نظركم ؟!! بضاعة ؟!! هي الأخت منين"

- مش فاهم قصد حضرتك

- يعني أنا شايفه إنك مربي دقنك ... يعني من الناس دول المتزمتين ... بتوع الدقن والجلابية ...

أيوه ... وفيه ناس منهم شاطرة بتصنع أسلحة نووي من أقراص الطعمية المزيتة

- سيادتك بتهزر ؟

- لأ ... بضحّك بس

- طيب وانت شايف المفروض تعامل مراتك إزاي ... عشان أنا عارفة إنكو بترجعوا بالزمن لورا ؟

أبدا ... بجيب خيمة 50 متر في الصحرا, وبروح الشغل بناقة مرسيدس فور باي فور, وأربط مراتي بسلسلة من رقبتها لحد ما أرجع تكون عملت الطبيخ ... وبعدين أقضيها ضرب فيها بالكرباج لحد قبل ما أنام ... في الآخر بزنبها ترفع حلة محشي ووشها للحيط لحد الفجر

- أنا مش عارفة إنت ليه عمال تهرج ؟

- وأنا نفسي أعرف بتجيبي الكلام ده منين ؟؟

- لأ ... أنا كلامي واثقة منه ... أنا دايما متابعة البرامج الوثائقية على "سي إن إن" و"فوكس نيوز" و"فورمز" متخصصة في المجال الاجتماعي تابعة لجامعة أكسفورد

- طيب ما هو بدل ما تروحي تاخدي الكلام من ناس عايشة بعيد عننا في الناحية التانية من الأرض, تنزلي تحت الشارع وتشوفي عم حسين بتاع الفول والشيخ علي المحامي وأم حبيبة الدكتورة ... عيشي مع الناس بجد وافهمي الحياة

- إزاي يعني عايزني أسيب الكلام "الديكيومينتري" الموثق ده وأسمع لشوية ناس وأقتنع بيهم ؟

- لأن الكلام الموثق ده معمول عن الناس دي, ومحدش هيعرف عن الناس أكتر من الناس نفسها ...

- مش مقتنعة ... انتو عايزنا دايما نرجع لورا, للخيمة والسيف والـ "هورس"

انتو مين؟ هو أنا جايب قبيلة جاية تتجوزك ؟؟

- شايف أسلوبك الهمجي ... لأ, وبعد ما نتجوز تقولي أنا عايز أجوز تلاتة تانيين عشان الشرع محلل أربعة

- ليه يا ماما؟ ... هوه أنا قادر أجيب شقة لجوازتي الأولانية لما هتجوز تلاتة تانيين, ده غير إن مش أي حد يتجوز أكتر من واحدة أساسا, فيه شروط ؟ ... وبعدين إنتي قريتي لمين في موضوع الزواج من أربعة ؟

- أحد المستشرقين اللي عاشوا في التمانينات ... وبيقول إن الموضوع مجرد فهم خاطئ

- طيب يافندم ... ممكن تدوري على حد من أحفاده الأوائل عشان تتجوزيه ما دام هوه اللي بقى يفتي دلوقتي ...

التفتُّ إلى والدي اللي شكله "اتمزج" بكلامي, وإلى أبيها "المصدوم" من كلامها قائلا :
طيب معلش يا حاج, "ليتس جو", عشان شكل الأستاذة سارة عايزة حد من "الهيومان رايتس" ...
سحبت أبي من يده وهو مسبهل مرددا : من الهيومان إيه ياخويا ؟؟؟
ثم ذهبت إلى صديقه العزيز, سلمت عليه , وهمست له : خلي بالك من بنتك يا حاج ...

--------------------------------------------


نزلنا أسفل العمارة ودمي يفور من حرقة الدم , بحثنا عن مواصلات حتى البيت, لم نجد ما يوصلنا, فزاد هذا من غضبي ...
فجأة, وجدت أبي يطبطب على ظهري قائلا : اهدى يا تامر, الموضوع مش مستاهل

- متضايق ... متضايق جدا يا حاج من التفكير ده ...

- يا عم ... خليها على ربك ... انت قولتلها رأيك والهداية بإيده سبحانه وتعالى

- أخذت نفسا عميقا ثم أخرجته في حرقة محركا رأسي تأييدا على كلامه , ثم مال عليا قائلا :

- طيب ... مادام الموضوع خلص بدري, وانت عايز تهدى ... إيه رأيك نروح المكان إياه ونضربلنا اتنين من اللي بالي بالك ؟

- لا يا حاج ... بتتكلم بجد؟ .. دي أمي لو عرفت هتعمل مشكلة

- ومين اللي هيقولها يلا ... يلا بينا بس

أطعته, واستقلينا ذاك الميكروباص من على الناصية متوجهين إلى "الجيارة", حيث جلسنا على طاولة مخصوص ... وطلبنا من عفيفي اتنين ...




اتنين عصير قصب ...


بتلجهم ...

يوميات باحث عن عروسة - بارت تو

بارت وان ... في حالة إن لم تكن قد قرأته:




قبل أن تقرأ : القصة فيها حتة مقرفة بنسبة 25%, يعني لو كنت ممن ولدواوفي بقهم صباع باتونسليه, أو كنت تتناول طعاما شهيا, فلا أنصحك بالقرآءة happy.gif

ملحوظة : القصة مبنية على عدد من الأحداث الحقيقية التي حدثت لأحد أصدقائي أثناء رحلاته البحثية عن شريكة العمر, بما فيها الحتة المقرفة happy.gif

يوميات باحث عن عروسة - بارت تو


"متأكدة يا حاجة إن هوه ده الشارع ؟"
نطقت هذه الجملة بأنف سددتها بطراطيف صوابعي وبيدي الأخرى أشمر عن ساقي لأستطيع عبور بركة سباحة مجاري أبو ريحة في هذا الشارع الضيق ...

"أيوه يابني ... هوه ... شارع العالمة"
ردت والدتي بكل تلقائية, والأفكار تتدافع في نافوخي ... العالمة ؟ ... يا زين ما اخترت يا حسنين , اسم يتاقل بالذهب ...
كانت هذه هي المرة الأولى التي أرى فيها هذه الملحمة ... أقصد المنطقة الشعبية من السيدة زينب, رغم أن دراستي الثانوية كانت في
عبرت بسرعة ثم مددت يدي لأمي مساعدا إياها ... حتى عبرت بصعوبة وأنا أنكشها :
"مش يا حاجة لو مكنتيش بطلتي جمباز كنتي نطيتي بسرعة"
نظرت إلي في مكر :
" وانت لو كنت بتستخدم المقص كويس كنت قصرت بيه لسانك الطويل"
ابتسمت وأنا أمشي بجوارها داخلين في شارع فرعي آخر ... انعطفنا يمينا ... ثم يمينا أخر, تلاها يسار بعد ثلاث حارات, لنقف أمام بلوك متوسط الهيئة, متوسط الارتفاع, متوسط الملعب ... احم ... أقصد الحارة ...
عن نفسي ... لا أطيق المشاوير ... واللف والدوران ... لكن أمي عايزة تجوزني وتخلص مني عشان تنتبه لجوز الأخين التانيين اللي متلقحين في البيت ... وأنا لا يضايقني ذلك بتاتا, لأني لو كنت مكانها لم أكن لأتحمل ثلاثتنا أكثر من شهر, ولألقيت بنا في بحيرة عين الصيرة وفي أقدامنا كتل خرسانية ... لكنها – لحظنا الحسن – أم , ولحظها الكحلي نحن أولادها ...

أفقت على جذبة يدها لي للدخول إلى ذاك البلوك, ازدرت ريقا وهميا, واستجمعت أعصابي سائرا معها, حتى لا يقال يوما ما في بيتنا أني (شاب خرع) ...
صعدنا السلالم التي كانت تشكو حالها لكل عابر, الدرجات مكسرة بهمجية وكأنها مجموعة من الكمائن أعدها ضباط الجستابو في الحرب العالمية لصيد الجواسيس ... الحوائط شبه منهارة يطل من أغلب أرجائها طوب احمر يصرخ من كم الكتابات التي تزينه مثل (حمادة الأعور كينج المنطقة), (قابل الموت ولا تقابل حسن كرع) , (البشكويشي برنس البرانيس) ... طبعا أخذت مني الكلمة الأخيرة وقتا طويلا لأدرك أنه بسلامته كان يقصد جمع كلمة برنس ...
ما زلنا نصعد , وطوال طريقك يفاجئك هبوط مفاجئ لقطة أو كلب أو فأر أو عرسة قد استوطنوا هذا المكان مع أهله, لكنهم أحسوا بوجودك كغريب, فآثروا لم نفسيهم قبل ما يفضحوا صحاب المكان ...

وصلنا إلى الدور الرابع, وطالعنا ذاك الباب الخشبي العتيق, الذي يحمل لوحة كتب عليها "المعلم عوكشة" ... طرقت أمي الباب ووقفنا ننتظر, سمعنا صوت أقدام تجري, ثم صوت عال بعدها طااااااااخ ... هدوء ... ثم ضحكات مايصة ... عقدت حاجبي في استغراب, لم يعد ينقص إلا بعض الرصاص ومطاردة للسيارات لأجزم أننا في أحد أفلام الأكشن الأمريكي ... ثواني ... وفتح الباب ... الباب الأول ... انتظرت أن يقتحوا الباب الثاني , لولا أني فوجئت بأمي تتحدث إلى هذا الباب, فمسحت نظاراتي وهززت رأسي , لتتضح لي الرؤية, دي الحاجة أم العروسة ...

أفسح الباب... أقصد الأم ... لنا الطريق, لندخل على الصالون ولأتخذ مكاني على أقرب مقعد كراجل محترم ينتظر الحكم بالإعدام ... ماله الدش يا عم الحاج ... مكنا مبسوطين ... استأذنت الأم حتى قبل أن تجلس, وخرجت بطلوع الروح من باب الصالون الموارب, أخذت أتطلع إلى النافذة, تُرى, هل القفز من الدور الرابع يُعد انتحارا ... نويت فعل ذلك ... لولا أن دخلت الأم بسرعة لا تتناسب مع إمكانياتها , فاعتدلت في جلستي والتوتر يكاد يعصرني حتى آخر قطرة, لدرجة خيل لي أني أستطيع فتح محل قصب وأعيش متنغنغ طوال حياتي بهذا الكم من العرق الذي يكاد يغمرني ...
ألقت الأم بتحيات المجاملات والدعايات والأفلمانات وأمي ترد عليها بما لذ وطاب من قاموس "غاية المرتاح لمجاملات الأفراح" ... دقائق ودخلت العروسة, برضه بصينية شربات !!! ... هي العالم كلها دي مستعجلة على إيه بالضبط ؟... كله هيتنيل على عينه يتخبط في دماغه ويتجوز و ... حانت مني التفاتة ناحية العروسة ........ بس برضه, الجواز مش وحش أوي يعني ...

اعتدلت في جلستي وقد أحسست ببعض الانتشاء الروحاني النفسي في سريات خلاياي العصبية المنبعجة في هيلمانات مخي ... و .... بدأنا الحديث ...
أخذت الماماتان تتحدثان عن كل شئ , السوق والمسلسلات والفساتين والأخبار والأهرام وأبو الهول وعمه وخاله وحتى هول نفسه, تحدثتا في كل شئ ... كل شئ ... إلا موضوع الجواز !!!! ولما حانت من أمي العزيزة التفاتة ناحيتي ... "يوه يا أم هبة (العروسة) الكلام خدنا ونسينا الموضوع اللي جايين عشانه" .. ابتسمت لأم هبة ابتسامة غيظ مطبق من نوع "خلونا نخلص يا حاجة" ....
أخذت الحاجة أم هبة تتحدث معي وتسألني عن أحوالي وشغلي و .... مرتبي !!! ... وأنا أجاوبها بهدوء يحسدني عليه غاندي نفسه ... أخذت أختلس النظر إلى العروسة أثناء حديثي , كانت تتابعنا طوال فترة الحديث دون أن يبدو عليها أي اهتمام , فتارة تلعب في طراطيف الكرسي الذي تجلس عليه, ومرة تتأمل أصابع قدمها, وأحيانا تسرح في لا شئ, من الآخر كأن الموضوع مش بتاعها... ولما طال الحديث وطال, التفت إلى هبة مقاطعا أمها :
"هوه احنا مش هنسمع صوت العروسة ولا إيه ؟"
سكتت أمها فجأة رامقة إياي بنظرة "ده انت واد قليل الحيا صحيح" لكنها آثرت أن تجعلها في سرها حتى يمضي الموضوع على خير , وبعدها "هتطلع عين اللي (تيييييت)" ... وجهت الحديث إلى هبة قائلا:
"انتي بقى في سنة كام ؟"
نظرت لي بلا اهتمام ثم ردت :
"تانية كلية حقوق"
تلاشت تلك الابتسامة التي كانت تزين وجهي, وأنا أحاول التأكد من مصدر هذا الصوت .
"نعم؟"
" إيه؟ ... بقولك تانية حقوق ... في حاجة؟"

لن أستطيع الإنكار, هذا الصوت الغريب قادم من تلك الأستاذة القابعة امامي, ارتشفت كوب الشربات على بق واحد محاولا تخفيف الصدمة, ذلك الصوت الذي يصبح صوت أخي الأصغر بما عرف عنه من صوته الأجش مقارنة بصوتها كسيمفونية يعزفها كناريا تدرب في منزل بيتهوفن منذ الصغر, عمق صوتها يذكرني بسرينة الإسعاف التي مضى عليها عقدان من الزمن دون إصلاح, أسلوب كلامها يذكرني بيوسف وهبي و "يالهوله" في أحد طلعاته المسرحية ... النتيجة, شلل في الأذن الوسطى بعد شهرين من الزواج ...

"مش مشكلة ... هيه جت على الصوت ... نبقى نلبس هيد فون"
تمتمت بالكلمات في سري محاولا إقناع نفسي أن الصوت ليس كل شئ, وأن الحلاوة حلاوة الروح على رأي ستي, تجاهلت كل ذلك وأخذت أسألها عن أحوالها وعن تفكيرها وأحلامها ... وفي بعض الأحيا أرمي إفيه على السريع ليفاجئني صوت ضحكة عذب يشبه صوت انهيار ثلجي فوق جبال الألب ...
"مش عايز تشرب حاجة يا ... يا ... حبيبي"
فوجئت بالست والدتها تقطع علينا حديثنا بهذه اللهجة التي تذكرك بلجان استجواب الجستابو في الحرب العالمية ... قررت أن أكلف الست دي بحاجة حتى لا تضايقنا ثانية, طلبت كوب قهوة, فنادت على إحدى بناتها لتعده وهي تنفخ في قرف بطريقة تكفي لدفع مركب شراعية للدوران حول العالم مرتين كاملتين ...

تابعنا الحديث محاولا قدر الإمكان ألا أدفعها للتكلم كثيرا خوفا على أذني وأذن الحاجة, خصوا إن والدي موصيني أرجعها زي ما خدتها ...

شوية ودخل لي كوب القهوة, أخذته في امتنان وبدأت في شربه متابعا حديثي ... ارتشفت الرشفة الأولى, لحظة, هناك شئ شبه جامد في فمي , كم أكره وجود حبات البن الصحيحة, من الممكن أن أفركش الموضوع كله لو أنها لا تعرف كيف تعد قهوة مضبوطة ... لما يئست من محاولة طحن تلك الحبة الخرقاء, قررت إخراجها ومواجهتهم بسوء إعدادهم لها, لكن بمجرد إخراجها, أدركت كم كنت مخطئا في حقهم ... فما أخرجته لم يكن حبة قهوة ... وإنما, صرصورا !!!!! ... هه

اسبهللت باندهاش متفاجئ, وأخذت أتطلع له في بلاهة ... صرصار؟؟!! .. في القهوة ؟؟!!! ... رفعت عيني إلى الجالسين ... أمي تدل تعابير وجهها على أعلى حالات القرف , الأم فتحت عينيها كأحد عيون عين الصيرة من الدهشة, الفتاة ... لم يبد عليها أدنى انفعال, ربما كانت تربيهم ...

سألت في عفوية مباشرة :"إيه ده ؟" ... أُحرجت الأم إحراجاً محرجاً بالأحاريج المحرجة , وأخذت تحاول أن تشرح لي أن سيادة الصرصار قادم مع البن وليس من عندهم و ... لم أعد أسمع المزيد ... وأنا أتذكر كيف كنت أحاول فرتكة تلك الجثة منذ ثوانٍ معدودة تحت أنيابي, أحسست بتقلبات معدتي, قاطعت الأم التي كانت لا تزال تحكي في موال نظرية مؤامرة الصراصير, واستأذنتها أن أدخل إلى الحمام لدقائق ... قامت, ووسعت السكة, وتوجهت إلى الحمام, أغلقت الباب, لأبدأ مرحلة إفراغ كل ما في جوفي ... تقيأت, وكلما تذكرت, تقيأت أكثر ,,, حتى خيل لي أني تقيأت معدتي في النهاية ...

طرقت الباب, ثم خرجت, وفي نيتي أن أنهي الموضوع في الحال ... الأمر تعدى مجرد الفشل في إعداد كوب قهوة ... دخلت إلى الغرفة وجلسوا هم يتحدثون محاولين تخفيف حدة الموقف, وأنا اكتفي بتوزيع الضحكات الخفيفية زي "عمو ابتساماتو" وأمي لا تزال تحاول أن تهدئ الموضوع وتسير به إلى النهاية ...

لم أطق الكثير, ملت على أمي, وهمست لها بإنهاء الحديث, فأنهته في براعة يحسدها عليها ديكارت, واستعددنا للذهاب ... وفجأة, سمعت طرقاً على الباب, تلبش وجه أم هبة, وأصابت هبة حالة هيسترية وهي تهتف "أخويا ... يافضيحتي, يا نهاري"

لم أفهم, فهتفت في أم هبة واللي جابوا هبة:
"خير يا حاجة ... في إيه؟"
"أصل ... أصل ده فطوطة أخوها"
"إيه يعني؟ هوه أخوها من وراكو يعني ولا إيه؟"
صوت الطرقات يتعالى على الباب
"عشان خاطري يابني ... تعالوا بس استخبوا في البلكونة"
ردت أمي في عصبية أينشتين :
" إييييييييه ؟؟؟ ... ليه ؟؟ ... هوه احنا بنسرق ؟؟؟"
"معلش يا طنط عشان خاطري ... قبل ما كلنا نروح في داهية"
أخذوا يدفعوننا حتى أوصلونا إلى بلكونة تشبه مصيدة فأر صغير, وأغلقوا الباب بإحكام, و ... خيم الصمت ...
كان المكان ضيقا جدا, وكنت قد وصلت إلى أقصى حالات الخنقة ولم يعد الصبر يطيق بي صبرا, زفرت في غم وقرف ...
"أمي"
ناديت على أمي فنظرت إلي في حنان:
"خير يا تامر"
"يعني ... في حالة طلع فرطوطة أخوها ...."
"قصدك فطوطة"
"أيا كان ... المهم إنه لو لقانا هيشرحنا"
"يا حفيظ يا رب"
"أكيد يا أمي ... ده أبو جزار هيطلع هوه جواهرجي مثلا ؟"
"ربنا يستر"
"يعني ... في حالة لو كنا هنتشرح , فعايز أعترفلك بحاجة قبل ما نتكل"
"خير ياخويا؟"
"فاكرة لما كنتي بتحطي الرز بلبن في التلاجة ... وبعدين متلاقيهوش"
نظرت لي نظرة شك عتيد وهي تردد:
" آه ... خير, انت تعرف عنه حاجة؟"
"أيوه يا حاجة ... أنا اللي كنت باخده ... وبأكله لمشمش"
"مشمش؟ ... القط اللي كان عند أم حسن جارتنا ؟"
"أيوه يا حاجة ... هوه مات من شوية"
"ده انت واد جاحد صحيح ... تدي نعمة ربنا للقطط وتحرم إخواتك؟"
"نعمة إيه يا أمي؟ ... ده موت 3 قطط لحد دلوقتي؟ ... وبعدين اخواتي هما اللي قالولي بعد حالة الإسهال الجماعي اللي كانت بتجيلهم"
"روح يابني ... أنا مش مسامحاك ليوم الدين"
"يا حاجة ... المهم مشمش اللي يسامحك"
همت بأن ترد رد يحرق دم هذا الإنسان البارد اللي بيكلمها (اللي هوه سعادتي) لولا أن فتح الباب وأطلت منه أم هبة بسحنتها الرائعة وعليها ابتسامة قسمت وجهها نصفين مرددة :
"اطمنوا ... ده طلع أبو هبة"
همهمت في سري "ده إيه العيلة اللي تخاف من العيل وتنفض لأبوه"

خرجنا إلى الصالون ثانية, وجدت الأب ينظر لي باستغراب مغرب بالأغاريب المغربة, تكلمت بسرعة :
"عارف يا حاج ... عارف ... أنا لو مكانك كنت هقول إيه اللي الناس دي كانت بتعمله في البلكونة عندي ؟"
نظرات الرجل يبدو عليها البلاهة ... صمت للحظات, ثم رد:
"لا يا أستاذ ... أنا بس مستغرب ليه كل ما حد يجيلنا يصر يدخل من البلكونة ... أومال الباب ده جايبه لمين, لأبويا؟"
"منطق برضه يا حاج ... بس المشكلة إن الدنيا طراوة منناحية البلكونة"
"آآآآآآآه"

ثم التفت أبو هبة لأم هبة سائلا :
"مين دول يا ولية؟"
"ده الأستاذ تامر ... جي يخطب هبة"
نظر له باسحذاق متورم وهو يقول :
"إيه ده؟ ... مش بنتك مخطوبة؟"
"لا يابو هبة ... ما هو خلاص ... الموضوع ده اتفركش"

كان هذا أكثر مما تتحمل أعصابي المرهفة, أمسكت بيد أمي, واستأذنت أبو هبة وأم هبة وهبة وأنا وانت ورقصني يا جدع ... وخدت السلم طيران دون أن ألتفت ورائي ...

-------------------------------------------------


مداعبا كوب نعناعي أمام جهازي الحبيب, أتصفح النت وأعيش قليلا محاولا نسيان صدمة الأمس ... دخلت الحاجة وجلست على الكنبة, نظرت إليها ... ضحكت, فضحكت بدوري ... ضحكنا بشدة ...
"والله يا تامر أنا عمريما شفت زي كده"
"مش عارف يا حاجة إيه كم المواقف العجيب ده ... أنا بجد استويت"
"انت ياد اللي وشك فقري"
"فعلا يا حاجة ... البلكونة الضيقة خير دليل"

ضحكت أمي ضحكتها العسل ... ثم تابعت :
"اوعى تكون يا واد قفلت من الجواز"
"لا أبدا يا حاجة ... هوه اللي بشوفه ده يقفل, ده يجيب درفها"
" لأ , بجد ياخويا ... عشان أشوفلك حاجة تاني"
ابتسمت, ثم رددت :
" ماشي يا أمي, بس اصبري عليا شوية أفوق ... و ..."
"و ... إيه ياخويا؟"
"ابقى ودينا لناسعندهم بلكونة واسعة شوية ..."

ضحكت أمي بشدة ... والتفتت , مناولة إياي ... طبق الرز بلبن !!! ه